I am text block. Click edit button to change this text. Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipiscing elit. Ut elit tellus, luctus nec العمارة والسينما إن العمارة بطبيعتها مجالٌ متعددٌ وعابرٌ للتخصصات. يقول «يوهان وولفجانج فون جوته»: إن العمارة يمكن وصفها بالموسيقى المتجمدة، فهي تنطوي على التفصيلات ذاتها التي تحكم الموسيقى مثل التناغم والتوازن والنسب والرياضيات والمشاعر، ولكنها تظهر في لحظة متجمدة، ومن هنا تأتي صورة «الجبل الجليدي». إلا أنني كنت دائمًا أشعر أن هذه المقولة ما هي إلا جزءٌ صغير مِن هذا الجبل الجليدي المجازي. فإن ما يخفى في الأعماق مِن الجبل الجليدي تحت خط الماء هو أضخم وأكثر غموضًا وخطورة مما يظهر منه في مجال الرؤية. كما أن الجبال الجليدية ليست جامدة، بل إنها تتحرَّكُ. لعل المجاز الأقرب للتعبير عن العمارة يمكن العثور عليه في عوالم السينما، فنحنُ نستشعرُ العمارةَ مِن خلال الانتقال داخل وعبر البيئة المجسمة والغامرة التي يخلقُها تكوينُ الفراغات مع الكتل الصلبة في المكان والزمان. ولكننا أيضًا نَستخدمُ حواسَّنا مِن لمسٍ وشمٍّ وسمعٍ في تحركنا وانتقالنا عبر المباني والمساحات العمرانية. إنه عالمٌ حسيٌّ أشبه بالحلم، ولكنه حقيقي وفي تحول دائم مع كل حركة. ومن أوجه الشبه الأخرى التي تجمع العمارة بالسينما هو الجانب السردي للعمارة؛ توظيفها للسرد كأداة والأبعاد الفلسفية السياسية والسوسيولوجية التي تجسدها المباني وتعبر عنها. العمارة هي فيلم يمكنك لمسه ومعايشته، تسحرك فيه سَطْوَةُ المنظورِ والدراما التي تصنعها الأضواء والظلال، وتأخذك عبر حكايتك الشخصية. هي فيلم تعيشه كل يوم وتكون أنت مادَّتُه وممثلُه ومخرجُه وقصتُه ومصورُه. المدينة كتعبير عن الإبداع والحضارة والإنسانية تجذب المدن أطيافًا متنوعة من البشر، فتخلق بذلك تجمعاتٍ مِن الموارد البشرية في مساحات مِن التعاون والتبادل والتفاعل. المدينة هي واحدة من أعظم ما أنتجته البشرية، مدفوعة في ذلك بالتطلُّعِ لما هو أبعد مِن حياة الرحالة، والرغبة في العيش في أمن ورخاء، وأن يكون لنا مكان نأوي إليه. ولكن منذ أوائل القرن الماضي وحتى منتصفه، بدا أن المدن في جميع أنحاء العالم تفقد طابعها الشخصي بشكل متزايدٍ مع توسعها استجابةً للنموِّ الصناعي والسكاني. في ذلك الوقت، بدأت السيارات والطرق في توجيه التصوُّرات عن التخطيط والتنمية العمرانية. نتيجة لذلك، هجر الناس الشوارع، ولم يعد هناك ما وصفته جين جيكوبز بـ «العيون على الشوارع» في كتابها الشهير «هبوط وصعود المدن الأمريكية الكبرى»(The Death and Life of Great American Cities). في كتابها، تنتقد «جيكوبز» تخطيط المدن الحديثة لعدم مراعاتِه الحاجة الاجتماعية للتواصل البصري والتفاعل الذي يجمع الناس ببعضهم في الشارع، والذي يؤسس لبناء الثقة وعلاقات التبادل بينهم. يذكرني ذلك بمدينة «تل براك» وهي واحدة من أقدم مدن أور ببلاد الرافدين؛ حيثُ بُنِيَتْ تلك المدينة قبل ٦۰۰۰ عام حول معبد يطلق عليه «معبد العين». إن من أبرز المزايا والدوافع وراء بناء المدن هو جمع الناس، وبالأخص الأغراب، من جميع مناحي الحياة؛ لكي يعيشوا على مقربة من بعضهم البعض وتحرس أعينهم بعضهم البعض، وتكون أعينهم على الشوارع التي يعيشون فيها أيضًا. ويقال: إن هذا هو السبب وراء بناء معبد العين في «تل براك»؛ حيث بُني المعبد احتفاءً بالعيش في ظل الحراسة والحماية الجماعية. تؤسس هذه الممارسات من الملاحظة والتعلم من الآخرين لبناء الثقة وتوفر بيئة آمنة للتبادل والتجارة، وهو ما يحرك الإبداع والإثراء الثقافي الذي يخلق بدوره مدنًا عظيمةً. إن المنطق الفطري القديم وراء بقاء المجموعةِ كان يقوم على التعاوُنِ والتفاعُلِ المتبادلِ، وكانت حالة الإثراء الجماعي التي تخلقها تلك العلاقات تُسْهِمُ في نجاح المدن والمجتمعات التي تسكنها. ما يزال هذا المنطق سليمًا بنفس القدر في وقتنا الحاليِّ، بل ويعد واحدًا من العوامل الرئيسية التي تحدد نجاح المدن من عدمه، قديمةً كانت أو حديثةً. فإن ما تحتويه مدننا الحديثة اليوم من عناصر بسيطة كانت موجودة في مدينة أور ترجع بدايتها إلى المدن الأولية مثل «تل براك». بهذا المنطق، يمكننا القولُ بإن العمارة هي مجموعة رموز تَتَوارَثُ عبر الزمنِ. فعلى المستوى المصغَّرِ، تنطوي العمارةُ على جانب عابر للثقافات يستوعب عناصر المدينة الأولية مثل الجدران والأسطح والأبواب والنوافذ والعلاقة بين تلك العناصر، والتي تشير جميعها إلى وظيفة مبنى معين وأهميته. أما على المستوى الأوسع، فهي تتضمن عناصر مثل الأسوار والبوابات والأبراج والمنازل والكنائس والمساجد وعموم الأبنية المقدسة، والمدارس والقصور والخزائن (مثل المكتبات والمتاحف في عصرنا)، والشوارع وميادين الأسواق؛ حيثُ يمكنُنا النظرُ إلى تلك المساحاتِ العامَّةِ وأن نتبين ما يشغل المجتمع والطبقة الحاكمة في مرحلة معينة من الزمن. وتوظيفًا للمقاربة التي استخدمها جوته، يمكننا النظر إلى تلك العناصر أو الرموز باعتبارها نوتات موسيقية يمكن ترجمتها إلى سيمفونية تستشعرها شتى الحواس وتتراوح الاحتمالات التي تخلقها ما بين اليوتوبيا والبؤس. يمثل الكهف واحدًا مِن أكثر أشكال العمارة الأولية الأقرب إلى قلبي، فهو يقدم صورة درامية لمساحة وفرت منطقة آمنة لأسلافنا. كان الكهف نقطة تلاقي في عالم قديم لا مبالٍ ومحفوف بالمخاطر، مكان نأوي إليه عندما يحلُّ الظلام، ونستظل تحت سطحه من شمس النهار الحارقة، أو ببساطة هو مخبأ نحتمي فيه عندما تعوي الذئاب. في مثل هذه المساحات المعمارية البدائية، كان البشر يتجمعون حول دفءِ النار لتناول الطعام ورواية القصص معًا. لعل بإمكاننا أيضًا أن ننظر للكهف باعتباره المنشأ لفن السينما، فعلى جدران الكهف تتحرك الصور التي تخلقها الظلال. كان الكهف مساحة مُحكمة لا يمكن لأحد أن يدخلها دُونَ دعوةٍ. الكهف ليس به شوارع، وليس له إلا مدخلًا واحدًا؛ لأنه لا يثق بالعالم الخارجيِّ؛ الكهف إذن هو ثقافة معمارية ولَّدَها الخوفُ. يقدم الكهف نظرة على بداية التجمعات السكنية المصغرة في المجتمعات الأولى، فيتضح لنا أن أي إمكانية لتطوُّرِ البشرية كانت لتتطلب رؤية أكثر اتساعًا. كان على البشر أن يجمعوا قواهم ويوحدوها وأن يتغلبوا على الخوف وأن يكتسبوا القدرة على الثقة بالغرباء، وأن يتركوا الكهف وراءهم. تطلَّبَتِ المرحلة التالية من الحياة المجتمعية التحلي بروح سخية وبرؤية طموحة لمستقبل أفضل يوفر مساحات آمنة وفضاءات عامة مشتركة وشوارع يمكن أن تبنى فيها علاقات تقوم على الثقة والتبادل على نطاق واسع. مِن هُنَا نشأت ونَمَتِ التجمعات السكنية ومنها ظَهَرَ النموذج الناجح للمسئولية والثراء المشتركَيْنِ الذي نعرفه اليوم بالمدينة. مشكلة الاصطناع تمثل مراكز التسوق والمدن المسورة اليوم شكلًا حديثًا من المساحات الشبيهة بالكهوف في انعزالها عن العالم خارجها. تكمن جاذبية هذه المساحات الخاصة والمنغلقة على نفسها في الوعودِ التي تقدِّمُها بالأمانِ والنظافةِ في عالم فَوْضَوِيٍّ. مِن المنظور المدني، يمكن لهذه المساحات أن تمثل المعمار المضاد للمدينة، فهي تنغلق على نفسها ولا تضيف للعالم الخارجيّ التي هي جزء منه. فهي على العكس من ذلك تعيش على البنية التحتية الموفرة مسبقًا، ولا تقدم في المقابل ما يضيف للمساحة العامة والسياق المدني المحيطين بها. إنها مساحات تنشأ بمعزل عن التاريخ والندوب التي تتركها التجارب الجماعية؛ هي لا تنمو بل توجد بين ليلة وضحاها. تقدم المجتمعات المسوَّرَةُ ومراكز التسوق أجواءً مصنَّعةً، يتجلَّى فيها شكلٌ مِن العمارة أشبه بمشروب النسكافيه، فمثل القهوة سريعة التحضير، تقدم تلك المساحات وعودًا لا يمكنها الوفاء به، وهكذا الحال مع كل ما يقع داخل نطاق هذا العالم الاصطناعي وثقافة الوجبات السريعة التي تسوده. تعد تلك الثقافة «سريعة التحضير» بتحقيق الإشباع دُونَ تكبُّدِ عناءِ طحنِ حبوبِ البنِّ، ودون خوضِ عمليةِ الإعدادِ. إن المشكلة في الواقع أعمق مِن ذلك، فتلك الثقافة تستبعد إمكانية ارتكابِ الأخطاءِ والرحلة التي تسبق الوصول إلى الجهة المرجوَّةِ، كأن تصل دُونَ أن تسافرَ. هذا الضمان بالجودة المقدم للأقلية ذات الامتيازات قائم بطبيعته على استثناء الأغلبية. وقد أضاف وباء كوفيد -۱۹ بُعدًا آخر للعمارة القائمة على الخوف في عصرنا، خاصة مع دخولنا عصر الذكاء الاصطناعي والمدن الذكية والعالم الرقمي؛ حيث يوجد رابحون وخاسرون. «عيون على الشوارع»..؟ أي عيون تلك؟ لقد كان جوته محقًّا في قوله بأن العمارة العظيمة والنافعة يحكمها نظام من الرموز مثلها مثل الموسيقى، غير أنه لم يعاصر موسيقى «ميوزاك Muzak»، وهي موسيقى المصاعد التي تم ابتكارها في السبعينيات من أجل خلق أجواءٍ عامَّةٍ إيجابيةٍ داخلَ مراكزِ التسوُّقِ والفنادق. إن محاولة الإبقاء على مزاج عامٍّ إيجابي هي في الأصل محاولة لغض النظر عن الحجم الحقيقي للجبل الجليديِّ؛ لكي يظل مناسبًا لصور السيلفي، فلا ينبغي للناس أن ينشغلوا بما يخفى تحت خط الماء. وللأسف، فإن لموسيقى المصاعد نظيرًا في العمارة، والذي يتمثل في الاختزال السطحي للغة المعمارية والمدن لكي تصير مصغرًا يصلح للاستهلاك السياحي السريع في شكل بطاقة بريدية تحمل منظرًا جميلًا أو مجموعة من الرموز «سريعة التحضير»، على نحو يهدد وجود المدينة ذاته، بكل جوانبها التي اعتدنا الاعتزاز بها من فوضوية وتعقيد وأصالة. يساعدنا الفنانون وصناع الأفلام على فَهم الرموز الخفية لحياة المدينة وللوجود ذاته. قُمتُ بتنسيق برنامجٍ مِن تسعة أعمال تتناول المواضيع التي أكتبُ عنها في هذا النص وتعبر عنها. تمثل هذه الأعمال جبالًا جليدية، فهي تعبِّرُ عما هو أكثر مما يمكنُنا رؤيته منها للوهلة الأولى؛ إنها عيوننا على الشارع. تم اختيار مكان عرض البرنامج بحيث يعبر عن الأفكار المطروحة في هذا النص وعن الأعمال نفسها. اختيار الأفلام وبرمجة: روري أوبراين mattis, pulvinar dapibus leo.
.